Sunday, February 17, 2008

عنهم اتحدث (1)...اقصد عنه اتحدث...شخابيط حرة (3)


تعاودها الآلام مرة أخري
تشعر بأنه قد حان الوقت
تخبر طبيبتها التي تقرر ادخالها حجرة العمليات
ييبدأ طبيب التخدير عمله لتجد نفسها تغيب عن الوعي شيئا فشيئا
تختفي من حولها الصور والوجوه .. وتختفي معالم الاشياء
فجأة يظهر أمامها

هي تعرف أنه هو .. ربما لم تستطع تمييز تفاصيل ملامحه رغم قربه منها لكنها توقن في داخلها انه هو
كان يرتدي ملابسا بيضاء وتحيطه هالة نور يطغي نورها علي كل شئ حتي غابت ملامح وجهه وسط هالة النور
كان يمسك بيده مسبحته ومصحفه الذان طالما كانا لا يفارقانه ...وضع يده علي وجهها وبدأ يقرأ القران
طوال عملية الولادة وهو واقف بجوارها ... تستطيع رغم ما هي فيه أن تميزه وسط الواقفين حولها ...تسطيع أن تميز صوته وهو يقرأ
بل تستطيع تمييز ما كان يقرأه ...كان يقرأ سورة الرحمن .. ظل يقرأ عليها حتي انتهت عملية الولادة
وعندما خرجت وبدأت تستعيد وعيها وتميز الأشياء من حولها كان أول ما نطقته
(ربنا يرحمك يا جدو )

.....


كانت هذه هي ابنة عمتي ...وما حكيته هو ما حدث لها منذ أيام قليلة اثناء ولادتها لطفلها الثاني عمار
أما من راته ورافقها في غرفة العمليات كان هو جدي الذي رحل عنا منذ عامين

رحل عن عالمنا منذ عامين ...لكنه لم يرحل من بيننا ... مازلنا نذكره باستمرار مع كل اجتماع للعائلة ..كان رحمه الله يحب (لمة العيلة) كما كان يسميها كثيرا ...تكون سعادته في اقصاها حين يجلس حوله اولاده الثمانية واحفاده الثلاثين منهم ...
كنا نحرص علي تكرار هذه اللمة في حياته وظللنا نحرص عليها اكثر بعد مماته
وكلما تجمعت العائلة اجدني اراه بعين الخيال .. هنا كان يجلس .. وهنا كان يداعب الاطفال .. وهناك كان يسأل هل وضعتم الطعام للنساء
يتردد صوته بأذني وكلماته المميزة وهو ينادي يا حاجة فين الفاكهة ...فين الشاي...
(او حين يلتفت الي أحد ابنائه سائلا اياه ( فلان مجاش ليه ) ...ويسال الاخر (فلان اتاخر ليه حد يكلمه

أتذكره وانا صغيرة حين كنت انزل مبكرا مع لحظات الصبح الاولي لأنتظر سيارة المدرسة فكنت اقابله وهو عائد من صلاة الفجر متدثرا بذلك البالطو الاسود وتلك الكوفية التي تغطي نصف وجهه .. في وسط البرد وذلك الشارع الخالي ...صورة له كنت اراها منذ زمن بعيد واستحضرها من حين الي اخر فهي مطبوعة في ذهني لا
تنمحي



أتذكره وهو ( يدلع ) اطفال العائلة ويداعبهم ويقبلهم .. وأتذكرني وانا أراقب هذا وأسأل نفسي هو احنا كبرنا بسرعه وللا ايه؟؟؟؟؟


أتذكره وهو يطمئن علي دراستي .. واتساءل تري كيف كان يجد الامر حين يطمئن علينا حفيدا حفيدا كلما راي احدنا... وكيف كانت لا تغيب هذه اللفتة عنه أبدا حين يرانا ولا ينساها


اتذكره في محنة مرضه الاخيره وأنا أراه حين يجئ موعد جرعة حقن الكيماوي فكان حين لا يستطيع تحمل ألمها لا تنطلق منه صرخات الالم العادية ...اذ كان يستبدلها بلا اله الا اللـــــــــــــــــــــــــه او يا اللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه

يطيل في قولها فتنطلق منه كصرخة ألم لكنها تحمل في طياتها صبرا ورضا لا ينتهي .. حتي اذا انتهي الأمر يقول بكل هدوء الحمد لله ويعود ليتحدث في أي موضوع آخر كأن شيئا لم يكن ..وكأن من كانت تعاوده هذه الآلام شخصا آخر غيره

كنت حين اراه لا املك الا دموعي ودعائي له بأن يرزقه الله الثبات والصبر والرضا وان يكون ممن قال فيهم النبي ( لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في جسده وأهله وماله، حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة)


أتذكر يوم وفاته ..كأنما مر بالأمس ...بكاء عماتي وجدتي الصامت..الحزن الذي يملأ عيون الرجال .. بكاء بعض الجيران عليه ربما أكثر منا ...أتذكرنا نحن الأحفاد الجالسون معا في غرفة تجمعنا كما اعتدنا لكننا لم نجلس لنتسامر او نلعب او نتحدث كما تعودنا ...بل جلسنا سويا يومها نبكي ...نمسك مصاحفنا لنقرأ القرآن ثم نعود لنبكي ثم نعود لمصاحفنا مرة اخري وهكذا

أتذكر جنازته ...حين عاد أخوتي الذكور ليحكون لنا عنها .. كيف مشي فيها الكثير من اقربائه واحبائه ومعارفه وهم كثر..وكذلك أحباء اولاده واخوانهم وهم أيضا كثر ...يومها تذكرت حديث رسول الله -ص- (من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له ) وتمنيت أن يرزقني الله جنازة مثله يمشي فيها الكثير ... ودعوت أكثر بأن يتقبله الله في رحمته وان يرزقنا جميعا حسن الخاتمة

أتذكر أخي الذي عاد يحكي كيف أن من غسله كان يقول ( مشفتش وش منور زيه قبل كده )

أتذكر العزاء والسرادق المزدحم الذي كانوا يحكون عنه كيف انه ما يكاد يفرغ فيه كرسي حتي يمتلئ من جديد


سامحني يا جدى ...قصرت في حقك كثيرا
خاصة في فترة مرضك الاخيرة وقد كانت فترة امتحانات التيرم عندي
احاسب نفسي كثيرا حين اتذكر هذا...وأندم أشد الندم ... واجدني اليوم حين اتذكر هذا لا املك الا ان اكون هذا الولد الذي يدعو لك دائما بالمغفرة والرحمة وان يجازيك الله عنا خير الجزااااااااء

لم تكن شخصا مرموقا بل كنت شخصا بسيطا جدااا...لكنك كنت بعيني أعظم الرجال..

ربي ابناؤه كافضل ما يكون ...فكان منهم خريجي الصيدلة والحقوق والعلوم والاعلام والتربية ..يشهد لهم جميع من عرفهم .. وجاءت سلسلة الاحفاد لتكمل الطريق ...

وليكون من بعده سلسلة تشهد انه حين رحل عن عالمنا ترك صدقة جارية في المجتمع تتكون من تربية صالحة رباها لابناؤه يورثونها لابنائهم ... وكذلك ترك اولادا صالحين واحفاد كثر يدعون له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دي صورة عمار بعد ولادته بأيام ....متنسوش تقولوا معايا لباباه ومامته بورك في الموهوب وشكرت الواهب ورزقتم بره...ربنا يجعله قرة عين ليكم